في ظل التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، وما يرافقها من ضغوط وتحديات تهدد تماسك المجتمعات وهوياتها الدينية، تبرز شريحة الشباب بوصفها العنصر الأكثر تعرضًا للتأثير والتقلب، ومع تنامي الحاجة إلى ترسيخ القيم الأصيلة في وجدان الأجيال الجديدة تظهر مؤسسات دينية وثقافية واعية تسعى لاحتضان هذه الفئة، وإعدادها فكريًا وأخلاقيًا لتحمل مسؤوليات المستقبل.
من هنا تأتي مؤسسة الأنوار النجفية للثقافة والتنمية كمثالٍ بارزٍ للمؤسسات التي حملت على عاتقها مهمة بناء وعي شبابي متزن، من خلال برامج معرفية وتربوية متكاملة، تجمع بين الأصالة الدينية وروح العصر، وتضع أمام الشباب نماذج واقعية لتجربة الإيمان كقوة بناء واستقرار.
الدين أسلوب حياة
وفي حديثه عن أهمية هذا المشروع التربوي أكَّد سماحة الشيخ علي النجفي (دام تأييده) الأمين العام لمؤسسة الأنوار النجفية للثقافة والتنمية أنَّ الشباب اليوم يواجهون ضغوطًا غير مسبوقة، من فوضى القيم، والغزو الثقافي، إلى الانفتاح غير المنضبط عبر وسائل التواصل.
وقال: "إن التحديات المعاصرة تتطلب خطابًا دينيًا مؤثرًا، يلامس واقع الشباب ويمنحهم رؤيةً واضحةً لمعنى التدين الحقيقي، المبني على الرحمة والعقلانية والعدل والاحترام. نحن لا نقدم الدين كطقوس جامدة، بل كمنظومة حياة تحاكي الإنسان في واقعه اليومي".
وأضاف سماحته: "مؤسسة الأنوار النجفية انطلقت من الحاجة الملحة إلى هذا النوع من الخطاب، فكانت الدورات المعرفية واحدة من أبرز أدواتنا، إذ جمعنا فيها بين المحاضرة الواعية، والأسلوب التفاعلي، والأجواء التربوية التي تعزز الانتماء وتفتح آفاقًا جديدة للتفكير".
الأخلاق بوابة التغيير
من جهته شدَّد سماحة الشيخ النجفي على أنَّ التربية الأخلاقية هي جوهر الرسالة التي تتبناها المؤسسة، قائلًا: "نحن لا نسعى إلى ملء عقول الشباب بالمفاهيم وحسب، بل نعمل على بناء ضمائرهم. الأخلاق هي ما يحفظ سلوك الإنسان حين يختلي بنفسه، وهي ما يوجه اختياراته في المواقف الحرجة".
وأوضح أنَّ المؤسسة وضعت محاور ثابتة في كلِّ دورةٍ معرفيةٍ، منها: الصدق، النزاهة، احترام الأسرة، ضبط العلاقات، وتحمل المسؤولية، ويتم تناول هذه المحاور عبر نقاشات مفتوحة، وقصص واقعية، وتجارب حية، تجعل المفاهيم أقرب للفهم والتطبيق.
إعلام يعزز الرسالة
أما مسؤول إنتاج المحتوى الإعلامي والثقافي في المؤسسة الأستاذ نصير الحسناوي، فقد بيّن أن الجانب الإعلامي يشكل ركيزةً مهمةً في هذا المشروع التربوي، مشيرًا إلى أن دور الإعلام لا يقتصر على التوثيق، بل يتعداه إلى الإلهام والتوجيه.
وقال الحسناوي: "نعمل على تقديم المحتوى التثقيفي بروح جديدة، تُقرّب الرسالة من عقلية الشباب، وتفتح لهم نوافذ الحوار، وتكسر الحواجز النفسية التي تعزلهم عن الدين. نعتمد على وسائل متعددة: الفيديو، البوستات، المقاطع القصيرة، القصص، والتفاعل المباشر مع الجمهور، وكل ذلك ضمن استراتيجية واضحة تحرص على المعنى قبل الشكل".
دورات تثقيفية سنوية متواصلة
وقد أوضح السيد محمد الشرع، مسؤول ملف الدورات في المؤسسة أنَّ هذه الدورات التي تُقام في حسينية الزهراء (عليها السلام) بمحافظة النجف الأشرف، أصبحت تقليدًا سنويًا ينتظره الشباب، مشيرًا إلى أنَّ عدد الدورات بلغ حتى الآن أربع عشرة دورة، شارك فيها المئات من الشباب من مختلف المحافظات الوسطى والجنوبية.
وقال الشرع: "مدة الدورة الواحدة تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أيام، يتلقى خلالها الشباب ثلاث إلى أربع محاضرات يوميًا، يلقيها نخبةٌ من العلماء والأساتذة المعروفين، وتتنوع مواضيعها بين الفقه، العقيدة، الأخلاق، وقضايا الهوية والانتماء".
وأضاف أنَّ المشاركين يتم اختيارهم وفق آلية دقيقة، بالتعاون مع فرق شبابية في المحافظات، تتابع باهتمام أوضاع الشباب وتنتقي العناصر الواعدة التي يمكن الاستثمار فيها فكريًا وروحيًا.
نخبة تحاكي الواقع
وأضاف الشرع: يحاضر في هذه الدورات عددٌ من الأسماء المعروفة في الوسط الحوزوي والثقافي، من بينهم: السيد محمد طاهر الجزائري، الشيخ علي النجفي، السيد طلال الحكيم، الشيخ عمار الجبوري، السيد أثير الشريفي، الشيخ علاء الكعبي، الشيخ حيدر اليونسي، الشيخ حميد الجاف، الشيخ مرتضى القرشي، السيد محمد تقي الحكيم، السيد صادق المروج، والشيخ حميد الركابي.
وتُختار الموضوعات بعناية لتواكب التحديات الفكرية والسلوكية التي يواجهها الشباب، منها: "كيف نرد على الشبهات؟"، "العقل والدين في مواجهة الإلحاد"، "الهوية الدينية في عصر العولمة"، "مواقع التواصل وكيفية التعامل معها"، وغيرها من العناوين التي تجد صداها الفعلي في الواقع المعاش.
خطط مستقبلية واعدة
ويؤكد الشرع أنَّ المؤسسة ماضية في توسيع رقعة هذا المشروع ليشمل أكبر عدد ممكن من الشباب في المحافظات العراقية كافة، مع تطوير الأساليب التعليمية، عبر إدخال ورش العمل، والعروض التفاعلية، والتجارب الجماعية التي تُنمّي الحس العملي والتفكير النقدي.
الوعي والإيمان
في زمن التحديات والانفتاح غير المحدود، تظل مؤسسة الأنوار النجفية للثقافة والتنمية واحدة من المنارات الفكرية التي تمسك بيد الشباب، وتدلّهم على طريق النور، لا بالشعارات، بل بالعلم، والتجربة، والقدوة.
إنها مسؤولية لا تليق إلا بمن آمن أن المستقبل لا يُبنى إلا بوعي ديني أخلاقي، متين الجذور، متجدد الوسائل.