أخذ الإنسانُ والمجتمعُ يسيران نحو
حياةٍ شديدةِ التعقيد، يتحرّكان داخل مصفوفةٍ واسعةٍ من التأثيرات المتداخلة؛
تتشابك فيها السياسةُ بالاقتصاد، والدينُ بالثقافة، والإنسانُ بخوارزمياتٍ معقّدة.
فهي ليست استعارةً، بل نموذجٌ يفسّر كيف يُعاد تشكيل الوعي والسلوك في زمن
التحوّلات الرقمية السريعة، عبر بنيةٍ من عُقَدٍ وروابط، لكلٍّ منها وزنٌ واتجاهٌ
وتأثير.
كلُّ علاقةٍ مجتمعية _مهما بدت صغيرة_
ليست بمعزلٍ عن غيرها، بل هي عنصرٌ داخل منظومةٍ أكبر تتحكّم في تدفّق التأثير
بين الأفراد والجماعات. وعندما تتشوّه وسائلُ الفهم والإدراك، يختلّ التوازنُ
المجتمعيُّ فوراً، ويتدافع الناسُ في مسارٍ واحد، بما يشبه سلوكَ القطيع؛ حركةً
سريعةً لا تستند إلى وعيٍ، بل إلى تشوّهٍ في إحدى الشرائح المؤثّرة داخلها.
وتظهر أولى تجلّيات هذا الخلل في
المصفوفة السياسية، حيث يُنظر إلى الفرد بوصفه رقمًا في رقعة شطرنج، وتُمارَس
عليه هندسةُ تأثيرٍ تعيد تشكيل الرأي العام عبر أدواتٍ رقميةٍ دقيقة، ليغدو جزءًا
من حركةٍ جماعيةٍ لا يدرك مصدرها. وفي المصفوفة الاقتصادية لا يُعامَل الإنسانُ
فاعلاً حرّاً، بل عنصراً داخل منظومة استهلاك تُقاس فيها كلُّ حركة، وتُعاد
برمجتها بخوارزمياتٍ تعرف عنه أكثر ممّا يعرفه عن نفسه. وهكذا الحال في المصفوفة
الدينية حين تُستثمَر لغايات التجنيد والتوجيه.
ما يهمّنا هنا أنّ الهويّات والمسارات
الذاتية باتت مهدّدةً بالذوبان، وأنّ مقاييس الجميل والقبيح، والمقبول والمرفوض،
تغادر معياريّتَها المنطقيةَ والفطرية تحت ضغط التشويه والأدلجة. فكلُّ مصفوفةٍ
قِيَميّةٍ قادرةٌ على إعادة تشكيل الذوق العام عبر الإعلام والترند والرموز الثقافية،
ومصادرة الثوابت إذا ما تولّت إدارتَها أيدٍ غير نزيهة. ولعلّ التشوّه الذهني
إزاء السكوت عن المذابح والتصفية العِرقية في فلسطين، مقابل الاندفاع نحو
التطبيع، أحدُ أبرز شواهد فاعلية هذا النظام وخطورة مخرجاته.
لقد أصبحت الثقافةُ اليوم _للأسف_
بعيدةً عن مرتكز العقل والذوق الحر، وصارت إيقاعًا مجتمعيًّا موجَّهًا؛ لأنّ
تقاطع المصفوفات الرقمية يعمل بطريقةٍ غير محايدة، ويُنتج قطيعاً رقميّاً يظنّ
أفراده أنّهم أحرار، بينما يتحرّكون داخل توجيهٍ خفيٍّ مدمجٍ في تصميم المنصّات
ذاتها. وعند تتبّع دارات هذه المصفوفات سنجد أنّ السياسةَ والاقتصادَ هما مركزها؛
وهذه ليست أحكامًا، بل قراءةٌ بنيويةٌ تفسيرية لطبيعة المصفوفة الحديثة.
ومن هنا، لا أرى في تطوّر علم الاتصال
المجتمعي إلّا أداةً لزرع الوعي البنيوي، وتطوير المدارك، وتحسين قدرة المجتمعات
على تحصين نفسها من المخاطر غير المحسوسة. فهي ليست مؤامرةً، بل بنيةٌ لها
آليتها، ويجب أن نُعيد فيها مركزيّة الإنسان، ليكون فاعلًا وصانعًا لقراراته، لا
مُساقاً ضمن أجنداتٍ سيّئةِ الصيت.
نصير الحسناوي